حينما
جلست في المقعد المخصص لي في الدرجة الأول من الطائرة التي تنوي الإقلاع
إلى عاصمة دولةٍ غربية ، كان المقعد المجاور لي من جهة اليمين ما يزال
فارغاً ، بل إن وقت الإقلاع قد اقترب والمقعد المذكور ما يزال فرغاً ، قلت
في نفسي : أرجو أن يظل هذا المقعد فارغاً ، أو أن ييسّر الله لي فيه جاراً
طيباً يعينني على قطع الوقت بالنافع المفيد ، نعم أن الرحلة طويلة سوف
تستغرق ساعات يمكن أن تمضي سريعاً حينما يجاورك من ترتاح إليه نفسك ،
ويمكن أن تتضاعف تلك الساعات حينما يكون الأمر على غير ما تريد!
وقبيل
الإقلاع جاء من شغل المقعد الفارغ … فتاةُ في مَيْعة الصِّبا ، لم تستطيع
العباءة الفضفاضة السوداء ذات الأطراف المزيَّنة أن تخفي ما تميزت به تلك
الفتاة من الرِّقة والجمال .. كان العطر فوَّاحاً ، بل إن أعين الركاب في
الدرجة الأولى قد اتجهت إلى مصدر الرائحة الزكيَّة ، لقد شعرت حينها أن
مقعدي ومقعد مجاورتي أصبحا كصورتين يحيط بهما إطار منضود من نظرات
الرُّكاب ، حينما وجهت نظري إلى أحدهم … رأيتُه يحاصر المكان بعينيه ،
ووجهه يكاد يقول لي : ليتني في مقعدك ؛ كنت في لحظتها أتذكر قول الرسول
عليه الصلاة والسلام فيما روي عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) (( ألا وإنَّ
طيب الرجال ما ظهر ريحه ، ولم يظهر لونه ، ألا وإن طيب النساء ما ظهر لونه
ولم يظهر ريحه )).
ولا أدري كيف استطعت في تلك اللحظة أن أتأمل معاني هذا الحديث الشريف ، لقد تساءلت حينها (( لماذا يكون طيب المرأة بهذه الصفة ))؟
كان الجواب واضحاً في ذهني من قبل :
إن المرأة لزوجها ، ليست لغيره من الناس ، وما دامت له فإن طيبَها ورائحة
عطرها لا يجوز أن يتجاوزه إلى غيره ، كان هذا الجواب واضحاً ، ولكن ما
رأيته من نظرات ركاب الطائرة التي حاصرت مقعدي ومقعد الفتاه ، قد زاد
الأمر وضوحاً في نفسي وسألت نفسي : يا ترى لو لم يَفُحْ طيب هذه الفتاة
بهذه الصورة التي أفعمت جوَّ الدرجة الأولى من الطائرة ، أكانت الأنظار
اللاَّهثة ستتجه إليها بهذه الصورة؟
عندما جاءت ((خادمة الطائرة ))
بالعصير ، أخذت الفتاة كأساً من عصير البرتقال ، وقدَّمته إليَّ ، تناولته
شاكراً وقد فاجأني هذا الموقف ، وشربت العصير وأنا ساكتٌ ،ونظرات ذلك
الشخص ما تزال تحاصرني ، وجَّهت إليه نظري ولم أصرفه عنه حتى صرف نظره
حياءً - كما أظن - ، ثم اكتفى بعد ذالك باختلاس النظرات إلى الفتاة
المجاورة ، ولما أصبح ذلك دَيْدَنَه ، كتبت قصاصة صغيرة (( ألم تتعب من
الالتفات ؟ ))، فلم يلتفت بعدها .
عندما غاصتْ الطائرة في السحاب
الكثيف بعد الإقلاع بدقائق معدودات اتجه نظري إلى ذالك المنظر البديع
سبحان الله العظيم ، قلتُها بصوت مرتفع وأنا أتأمل تلك الجبال الشاهقة من
السحب المتراكمة التي أصبحنا ننظر إليها من مكان مرتفع ، قالت الفتاة التي
كانت تجلس بجوار النافذة : إي والله سبحان الله العظيم ، ووجهتْ حديثها
إليَّ قائلة ً إن هذا المنظر يثير الشاعرية الفذَّة ، ومن حسن حظي أنني
أجاور شاعراً يمكن أن يرسم لوحة ًشعرية رائعة لهذا المنظر …
لم تكن
الفتاة وهي تقول لي هذا على حالتها التي دخلت بها إلى الطائرة ، كلا..لقد
لملمت تلك العباءة الحريرية ، وذلك الغطاء الرقيق الذي كان مسدلاً على
وجهها ووضعتهما داخل حقيبتها اليدوية الصغيرة ، لقد بدا وجهها ملوَّناً
بألوان الطيف ، أما شعرها فيبدو أنها قد صفَّـفته بطريقة خاصة تعجب
الناظرين …
قلت لها :
سبحان من علَّم الإنسان ما لم يعلم ، فلولا ما أتاح الله للبشر من كنوز
هذا الكون الفسيح لما أتيحت لنا رؤية هذه السحب بهذه الصورة الرائعة ..
قالت: إنها تدلُّ على قدرة الله تعالى ..
قلت:
نعم تدل على قدرة مبدع هذا الكون و خالقه ،الذي أودع فيه أسراراً عظيمة ،
وشرع فيه للناس مبادئ تحفظ حياتهم وتبلَّـغهم رضى ربهم ،وتنجيهم من عذابه
يوم يقوم الأشهاد.
قالت : إلا يمكن أن نسمع شيئاً من الشعر فإني أحب الشعر وإن هذه الرحلة ستكون تاريخية بالنسبة إليَّ ، ما كنت أحلم أن أسمع منك مباشرة ..
لقد تمنَّيتُ من أعماق قلبي لو أنها لم تعرف مَنْ أنا لقد كان في ذهن أشياء كثيرة أريد أن أقولها لها .
وسكتُّ
قليلاً كنت أحاور نفسي حواراً داخلياً مُرْبكاً ، ماذا أفعل ، هل أبدأ
بنصيحة هذه الفتاة وبيان حقيقة ما وقعت فيه من أخطاءٍ ظاهرة ، أم أترك ذلك
إلى آخر المطاف ؟
وبعد تردُّد قصير عزمت على النصيحة المباشرة السريعة لتكون خاتمة الحديث معها.
وقبل
أن أتحدث أخرجت من حقيبتها قصاصاتٍ ملوَّنة وقالت : هذه بعض أوراق أكتبها
، أنا أعلم أنها ليست على المستوى الذي يناسب ذوقك ، ولكنها خواطر عبرت
بها عن نفسي …
وقرأت القصاصات بعناية كبيرة ، إني أبحث فيها عن مفتاح لشخصية الفتاة ..
إنها
خواطر حالمة ، هي فتاة رقيقة المشاعر جداً ، أحلامها تطغى على عقلها بشكل
واضح ، لفت نظري أنها تستشهد بأبيات من شعري ، قلت في نفسي هذا شيء جميل
لعل ذلك يكون سبباً في أن ينشرح صدرها لما أريد أن أقول ، بعد أن قرأت
القصاصات عزمت على تأخير النصيحة المباشرة وسمحت لنفسي أن تدخل في حوارٍ
شامل مع الفتاة ..
قلت لها : عباراتك جميلة منتقاة ، ولكنها لا تحمل معنىً ولا فكرة كما يبدو لي ، لم أفهم منها شيئاً ، فماذا أردتِ أن تقولي …؟
بعد صمتٍ قالت :
لا أدري ماذا أردتُ أن أقول : إني أشعر بالضيق الشديد ، خاصة عندما يخيَّم
عليَّ الليل ، أقرأ المجلات النسائية المختلفة ، أتأمَّل فيها صور
الفنانات والفنانين ، يعجبني وجه فلانة ، وقامة فلانة ، وفستان علاَّنة ،
بل تعجبني أحياناً ملامح أحد الفنانين فأتمنَّى لو أن ملامح زوجي كملامحه
، فإذا مللت من المجلات اتجهت إلى الأفلام ، أشاهد منها ما أستطيع وأحسُّ
بالرغبة في النوم ، بل إني أغفو وأنا في مكاني ، فأترك كل شيء وأتجه إلى
فراشي …، وهناك يحدث ما لا أستطيع تفسيره ، هناك يرتحل النوم ، فلا أعرف
له مكاناً .
عجباً ، أين ذلك النوم الذي كنت أشعر به وأنا جالسة ، وتبدأ رحلتي مع الأرق ، وفي تلك اللحظات أكتب هذه الخواطر التي تسألني عنها …
(( إنها مريضة )) قلتها في نفسي ، نعم إنها مريضة بداء العصر ؛ القلق الخطير ، إنها بحاجة إلى علاج .
قلت لها :
ولكنَّ خواطرك هذه لا تعبر عن شيء ٍ مما قلت إنها عبارات برَّاقة ، يبدو
أنك تلتقطينها من بعض المقالات المتناثرة وتجمعينها في هذه الأوراق …
قالت :
عجباً لك ، أنت الوحيد الذي تحدَّثت بهذه الحقيقة ،كل صديقاتي يتحدثن عن
روعة ما أكتب ، بل إن بعض هذه الخواطر قد نشرت في بعض صحفنا ، وبعثَ إلىَّ
المحرِّر برسالة شكر على هذا الإبداع ، أنا معك أنه ليس لها معنى واضح ،
ولكنها جميلة .
وهنا سألتها مباشرة :
هل لك هدفٌُ في هذه الحياة ؟!
بدا على وجهها الارتباك ، لم تكن تتوقع السؤال ، وقبل أن تجيب قلت لها :
هل
لك عقل تفكرين به ، وهل لديك استقلال في التفكير ؟ أم أنك قد وضعت عقلك
بين أوراق المجلات النسائية التي أشرت إليها ، وحلقات الأفلام التي ذكرت
أنك تهرعين إليها عندما تشعرين بالملل .
هل أنتِ مسلمة ؟!..
هنا تغيَّر كل شيء ، أسلوبها في الحديث تغيَّر ، جلستها على المقعد تغيَّرت ، قالت :
هل
تشك في أنني مسلمة ؟ ! إني - بحمد الله - مسلمة ٌُ ومن أسرة مسلمة عريقة
في الإسلام ، لماذا تسألني هذا السؤال ، إن عقلي حرٌّ ليس أسيراً لأحد ،
إني أرفض أن تتحدَّث بهذه الصورة ….. وانصرفت إلى النافذة تنظر من خلالها
إلى ملكوت الله العظيم …
لم أعلق على كلامها بشيء ، بل إنني أخذت
الصحيفة التي كانت أمامي وانهمكت في قراءتها ، ورحلت مع مقال في الصحيفة
يتحدث عن الإسلام والإرهاب (( كان مقالاً طويلاً مليئاً بالمغالطات
والأباطيل ، يا ويلهم هؤلاء الذين يكذبون على الله , ولا أكتمكم أنني قد
انصرفت إلى هذا الأمر كلياً حتى نسيت في لحظتها ما جرى من حوار بيني وبين
مجاورتي في المقعد ، ولم أكن أشعر بنظراتها التي كانت تختلسها إلى الصحيفة
لترى هذا الأمر الذي شغلني عن الحديث معها - كما أخبرتني فيما بعد ، ولم
أعد من جولتي الذهنية مع مقال الصحيفة إلا على صوتها وهي تسألني :
أتشك في إسلامي ؟!
قلت لها : ما معنى الإسلام ؟! قالت : هل أنا طفلة حتى تسألني هذا السؤال ! قلت لها:
معاذ الله بل أنت فتاة ناضجة تمتم النضج ، تُلوِّن وجهها بالأصباغ ،
وتصفِّفُ شعرها بطريقة جيدة ، وتلبس عباءتها وحجابها في بلادها ، فإذا
رحلت خلعتها وكأنهما لا يعنيان لها شيئاً ، نعم إنك فتاة كبيرة تحسن
اختيار العطر الذي ينشر شذاه في كل مكان ..فمن قال إنك طفلة … ؟!
قالت : لماذا تقسو عليَّ بهذه الصورة ؟
قلت لها : ما الإسلام ؟ … قالت : الدين الذي أرسل الله به محمد صلى الله عليه وسلم ، قلت لها : وهو كما حفظنا ونحن صغار (( الاستسلام لله بالتوحيد ، والانقياد له بالطاعة ، و الخلوص من الشرك )) ، قالت : إي والله ذكرتني ، لقد كنت أحصل في مادة التوحيد على الدرجة الكاملة !
قلت لها : ما معنى (( الانقياد له بالطاعة )) ؟
سكتت قليلاً ثم قالت : أسألك بالله لماذا تتسلَّط عليَّ بهذه الصورة ، لماذا تسيء إليَّ وأنا لم أسئ إليك ؟
قلت لها : عجباً لك ، لماذا تعدّين حواري معك إساءة ؟ أين موطن الإساءة فيما أقول؟
قالت : أنا ذكية وأفهم ما تعني ، أنت تنتقدني وتؤنبني وتتهمني ، ولكن بطريقة غير مباشرة ..
قلت لها : ألست مسلمة ؟
قالت : لماذا تسألني هذا السؤال ؟ إني مسلمة من قبل أن أعرفك ، وأرجوك ألا تتحدث معي مرة أخرى .
قلت لها : أنا متأسف جداً ، وأعدك بألا أتحدث إليك بعد هذا …
ورجعتُ
إلى صفحات الصحيفة التي أمامي أكمل قراءة ذلك المقال الذي يتجنَّى فيه
صاحبه على الإسلام ، ويقول : إنه دين الإرهاب ، وإن أهله يدعون إلى
الإرهاب ، وقلت في نفسي : سبحان الله ، المسلمون يذبَّحون في كل مكان كما
تذبح الشيِّاه ، ويقال عنهم أهل الإرهاب …
وقلبتُ صفحة أخرى فرأيت خبراً عن المسلمين في كشمير ، وصورة لامرأة مسلمة تحمل طفلاً ، وعبارة تحت صورتها تقول : إنهم يهتكون أعراضنا ينزعون الحجاب عنَّا بالقوة وأن الموت أهون عندنا من ذلك ، ونسيت أيضاً أن مجاورتي كانت تختلس نظرها إلى الجريدة ، وفوجئت بها تقول :
ماذا تقرأ ؟ .. ولم أتحدث إليها ، بل أعطيتها الجريدة وأشرت بيدي إلى صورة المسلمة الكشميرية والعبارة التي نُقلت عنها …
ساد الصمت وقتاً ليس بالقصير ، ثم جاءت خادمة الطائرة بالطعام … واستمر الصمت …
وبعد أن تجوَّلتُ في الطائرة قليلاً رجعت إلى مقعدي ، وما إن جلست حتى بادرتني مجاورتي قائلة ً :
ما كنت أتوقع أن تعاملني بهذه القسوة !..
قلت لها :
لا
أدري ما معنى القسوة عندكِ ، أنا لم أزد على أن وجهت إليك أسئلة ً كنت
أتوقع أن أسمع منك إجابة ًعنها ، إ لم تقولي إنك واثقة بنفسك ثقة ً كبيرة
؟ فلماذا تزعجك أسئلتي ؟
قالت : أشعر أنك تحتقرني ..
قلت لها : من أين جاءك هذا الشعور ؟
قالت : لا أدري .
قلت لها :
ولكنني أدري .. لقد انطلق هذا الشعور من أعماق نفسك ، إنه الشعور بالذنب
والوقوع في الخطأ ،أنت تعيشين ما يمكن أن أسمّيه بالازدواجية ، أنت تعيشين
التأرجح بين حالتين …
وقاطعتني بحدّة قائلة : هل أنا مريضة نفسياً ؟ ما هذا الذي تقول ؟!
قلت لها :
أرجو ألاَّ تغضبي ، دعيني أكمل ، أنت تعانين من ازدواجيةٍ مؤذية ، أنتِ
مهزومة من الداخل ، لاشك عندي في ذلك ، وعندي أدلّة لا تستطيعين إنكارها .
قالت مذعورة ً : ما هي ؟
قلت :
تقولين إنك مسلمة ، والإسلام قول وعمل ، وقد ذكرت لك في أول حوارنا أن من
أهم أسس الإسلام (( الانقياد لله بالطاعة )) ، فهل أنت منقادة لله بالطاعة
؟
وسكتُّ لحظة ً لأتيح لها التعليق على كلامي ، ولكنها سكتتْ ولم تنطق ببنتِ شفةٍ - كما يقولون - وفهمت أنها تريد أن تسمع ، قلت لها :
هذه العباءة ، وهذا الحجاب اللذان حُشرا - مظلومَيْن - في هذه الحقيبة الصغيرة دليل على ما أقول ….
قالت بغضب واضح : هذه أشكال وأنت لا تهتم إلا بالشكل ، المهم الجوهر .
قلت لها:
أين الجوهر؟ ها أنت قد اضطربت في معرفة مدلولات كلمة (( الإسلام )) الذي
تؤمنين به ، ثم إن للمظهر علاقة قوية بالجوهر ، إن أحدهما يدلُّ على الآخر
، وإذا اضطربت العلاقة بين المظهر والجوهر ، اضطربت حياة الإنسان …
قالت : هل يعني كلامك هذا أنَّ كل من تلبس عباءة ً وتضع على وجهها حجاباً صالحة نقية الجوهر ؟
قلت لها :
كلا ، لم أقصد هذا أبداً ، ولكنَّ من تلبس العباءة والحجاب تحقِّق مطلباً
شرعياً ، فإن انسجم باطنها مع ظاهرها ، كانت مسلمة حقّة ، وإن حصل العكس
وقع الاضطراب في شخصيتها ، فكان نزعُ هذا الحجاب - عندما تحين لها الفرصة
هيِّناً ميسوراً ، إن الجوهر هو المهم ، وأذكِّرك الآن بتلك العبارة التي
نقلتها الصحيفة عن تلك المرأة الكشميرية المسلمة ، ألم تقل : إن الموت
أهون عليها من نزع حجابها ؟ لماذا كان الموت أهون ؟
لأنها آمنت بالله
إيماناً جعلها تنقاد له بالطاعة فتحقق معنى الإسلام تحقيقاً ينسجم فيه
جوهرها مع مظهرها ،وهذا الانسجام هو الذي يجعل المسلم يحقق معنى قول
الرسول عليه الصلاة السلام : (( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون
هواه تبعاً لما جئت به )) .
إنَّ لبس العباءة والحجاب - عندك - لا
يتجاوز حدود العادة والتقليد ، ولهذا كان هيّناً عليك أن تنزعيهما عنك دون
تردُّد حينما ابتعدت بك الطائرة عن أجواء بلدك الذي استقيت منه العادات
والتقاليد ، أما لو كان لبسك للحجاب منطلقاً من إيمانك بالله ، واعتقادك
أن هذا أمر شرعي لا يفرّق بين مجتمع ومجتمع ، ولا بلدٍ وبلدٍ لما كان
هيّناً عليك إلى هذه الدرجة .
الازدواجية في الشخصية - يا عزيزتي - هي المشكلة .. أتدرين ما سبب هذه الازدواجية ؟
فظننت أنها ستجيب ولكنها كانت صامتةً ، وكأنها تنتظر أن أجيب أنا عن هذا السؤال..
قلت:
سبب هذه الازدواجية الاستسلام للعادات والتقاليد ، وعدم مراعاة أوامر
الشرع ونواهيه ، إنها تعني ضعف الرقابة الداخلية عند الإنسان ،ولهذا فإن
من أسوأ نتائجها الانهزامية حيث ينهزم المسلم من الداخل ،فإذا انهزم تمكن
منه هوى النفس ، وتلاعب به الشيطان ، وظلَّ كذلك حتى تنقلب في ذهنه
الموازين …
لم تقل شيئاً ، بل لاذت بصمت عميق ، ثم حملت حقيبتها واتجهت
إلى مؤخرة الطائرة … وسألت نفسي تراها ضاقت ذرعاً بما قلت ، وتراني
وُفَّقت فيما عرضت عليها ؟ لم أكن - في حقيقة الأمر - أعرف مدى التأثر بما
قلت سلباً أو إيجاباً ، ولكنني كنت متأكداً من أنني قد كتمت مشاعر الغضب
التي كنت أشعر بما حينما توجه إليَّ بعض العبارات الجارحة ، ودعوت لها
بالهداية ، ولنفسي بالمغفرة والثبات على الحق .
وعادت إلى مقعدها .. وكانت المفاجأة ، عادت وعليها عباءَتُها وحجابها … ولا تسل عن فرحتي بما رأيت !
قالت :
إن رحمة الله بي هي التي هيأت لي الركوب في هذا المقعد ، صدقت - حينما
وصفتني - بأنني أعاني من الهزيمة الداخلية ، إن الازدواجية التي أشرت
إليها هي السمة الغالبة على كثير من نبات المسلمين وأبنائهم ، يا ويلنا من
غفلتنا ! أنَّ مجتمعاتنا النسائية قد استسلمتْ للأوهام ، لا أكتمك أيها
الأخ الكريم ، أن أحاديثنا في مجالسنا نحن النساء لا تكاد تتجاوز الأزياء
والمجوهرات والعطورات ، والأفلام والأغاني والمجلات النسائية الهابطة ،
لماذا نحن هكذا ؟
هل نحن مسلمون حقاًً ؟
هل أنا مسلمة ؟
كان
سؤالك جارحاً ، ولكني أعذرك ، لقد رأيتني على حقيقة أمري ، ركبت الطائرة
بحجابي ، وعندما أقلعت خلعت عني الحجاب ، كنت مقتنعة بما صنعت ، أو هكذا
خُيِّل إليَّ أني مقتنعة ، بينما هذا الذي صنعته يدلُّ حقاً على
الانهزامية والازدواجية ، إني أشكرك بالرغم من أنك قد ضايقتني كثيراً ،
ولكنك أرشدتني ، إني أتوب إلى الله وأستغفره .
ولكن أريد أن أستشيرك .
قلت وأنا في روضةٍ من السرور بما أسمع من حديثها : (( نعم … تفضلي إني مصغ ٍ إليك )) .
قالت : زوجي ، أخاف من زوجي .
قلت : لماذا تخافين منه ، وأين زوجك ؟
قالت : سوف يستقبلني في المطار ، وسوف يراني بعباءتي وحجابي ..
قلت لها : وهذا شيء سيسعده …
قالت :
كلا ، لقد كانت آخر وصية له في مكالمته الهاتفية بالأمس : إياك أن تنزلي
إلى المطار بعباءتك لا تحرجيني أمام الناس ، إنه سيغضب بلا شك .
قلت لها :
إذا أرضيت الله فلا عليك أن يغضب زوجُك ، و بإمكانك أن تناقشيه هادئة
فلعلَّه يستجيب ، إني أوصيك أن تعتني به عناية الذي يحب له النجاة
والسعادة في الدنيا والآخرة .
وساد الصمت …. وشردت بذهني في صورة خيالية إلى ذلك الزوج يوصي زوجته بخلع حجابها … أهذا صحيح ؟!
أيوجد
رجل مسلم غيور كريم يفعل هذا ؟! لا حول ولا قوة إلا بالله ، إن مدنية هذا
العصر تختلس أبناء المسلمين واحداً تلو الآخر ، ونحن عنهم غافلون ، بل ،
نحن عن أنفسنا غافلون .
وصلت الطائرة إلى ذلك المطار البعيد ، وانتهت
مراسم هذه الرحلة الحافلة بالحوار الساخن بيني وبين جارة المقعد ، ولم
أرها حين استقبلها زوجها ، بل إن صورتها وصوتها قد غاصا بعد ذلك في عالم
النسيان ، كما يغوص سواها من آلاف الأشخاص والمواقف التي تمر بنا كلَّ يوم
…
كنت
جالساً على مكتبي أقرأ كتاباً بعنوان (( المرأة العربية وذكورية الأصالة
)) لكاتبته المسمَّاة ((منى غصوب )) وأعجبُ لهذا الخلط ، والسفسطة ،
والعبث الفكري واللغوي الذي يتضمَّنه هذا الكتاب الصغير ، وأصابني -
ساعتها - شعور عميق بالحزن والأسى على واقع هذه الأمة المؤلم ، وفي تلك
اللحظة الكالحة جاءني أحدهم برسالة وتسلَّمتها منه بشغف ، لعلَّي كنت
أودُّ - في تلك اللحظة - أن أهرب من الألم الذي أشعله في قلبي ذلك الكتاب
المشؤوم الذي تريد صاحبته أن تجرد المرأة من أنوثتها تماماً ، وعندما فتحت
الرسالة نظرت إلى اسم المرسل ، فقرأت : (( المرسلة أختك في الله أم محمد
الداعية لك بالخير )) .
أم محمد ؟ من تكون هذه ؟!
وقرأت الرسالة ،
وكانت المفاجأة بالنسبة إليَّ ، إنها تلك الفتاة التي دار الحوار بيني
وبينها في الطائرة ، والتي غاصت قصتها في عالم النسيان !
إن أهم عبارة قرأتها في الرسالة هي قولها : ((
ثم
أمسكت بالقلم … وكتَبْتُ رسالةََ ً إلى (( أم محمد )) عبَّرْتُ فيها عن
فرحتي برسالتها ، وبما حملته من البشرى ، وضمَّنتها أبياتاً من القصيدة
التي أشارت إليها في رسالتها ، منها :
ضدان يا أختاه ما اجتمعا *** دين الهدى والفسق والصَّدُّ
والله مـــــا أزرى بأمـــتنا *** إلا ازدواج مــــا لــه حَــدُّ
وعندما هممت بإرسال رسالتي ، تبيَّن لي أنها لم تكتب عنوانها البريديَّ ، فطويتها بين أوراقي لعلّها تصل إليها ذات يوم .
لعلَّك
تذكر تلك الفتاة التي جاورتك في مقعد الطائرة ذات يوم ، إِني أبشِّرك
جلست في المقعد المخصص لي في الدرجة الأول من الطائرة التي تنوي الإقلاع
إلى عاصمة دولةٍ غربية ، كان المقعد المجاور لي من جهة اليمين ما يزال
فارغاً ، بل إن وقت الإقلاع قد اقترب والمقعد المذكور ما يزال فرغاً ، قلت
في نفسي : أرجو أن يظل هذا المقعد فارغاً ، أو أن ييسّر الله لي فيه جاراً
طيباً يعينني على قطع الوقت بالنافع المفيد ، نعم أن الرحلة طويلة سوف
تستغرق ساعات يمكن أن تمضي سريعاً حينما يجاورك من ترتاح إليه نفسك ،
ويمكن أن تتضاعف تلك الساعات حينما يكون الأمر على غير ما تريد!
وقبيل
الإقلاع جاء من شغل المقعد الفارغ … فتاةُ في مَيْعة الصِّبا ، لم تستطيع
العباءة الفضفاضة السوداء ذات الأطراف المزيَّنة أن تخفي ما تميزت به تلك
الفتاة من الرِّقة والجمال .. كان العطر فوَّاحاً ، بل إن أعين الركاب في
الدرجة الأولى قد اتجهت إلى مصدر الرائحة الزكيَّة ، لقد شعرت حينها أن
مقعدي ومقعد مجاورتي أصبحا كصورتين يحيط بهما إطار منضود من نظرات
الرُّكاب ، حينما وجهت نظري إلى أحدهم … رأيتُه يحاصر المكان بعينيه ،
ووجهه يكاد يقول لي : ليتني في مقعدك ؛ كنت في لحظتها أتذكر قول الرسول
عليه الصلاة والسلام فيما روي عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) (( ألا وإنَّ
طيب الرجال ما ظهر ريحه ، ولم يظهر لونه ، ألا وإن طيب النساء ما ظهر لونه
ولم يظهر ريحه )).
ولا أدري كيف استطعت في تلك اللحظة أن أتأمل معاني هذا الحديث الشريف ، لقد تساءلت حينها (( لماذا يكون طيب المرأة بهذه الصفة ))؟
كان الجواب واضحاً في ذهني من قبل :
إن المرأة لزوجها ، ليست لغيره من الناس ، وما دامت له فإن طيبَها ورائحة
عطرها لا يجوز أن يتجاوزه إلى غيره ، كان هذا الجواب واضحاً ، ولكن ما
رأيته من نظرات ركاب الطائرة التي حاصرت مقعدي ومقعد الفتاه ، قد زاد
الأمر وضوحاً في نفسي وسألت نفسي : يا ترى لو لم يَفُحْ طيب هذه الفتاة
بهذه الصورة التي أفعمت جوَّ الدرجة الأولى من الطائرة ، أكانت الأنظار
اللاَّهثة ستتجه إليها بهذه الصورة؟
عندما جاءت ((خادمة الطائرة ))
بالعصير ، أخذت الفتاة كأساً من عصير البرتقال ، وقدَّمته إليَّ ، تناولته
شاكراً وقد فاجأني هذا الموقف ، وشربت العصير وأنا ساكتٌ ،ونظرات ذلك
الشخص ما تزال تحاصرني ، وجَّهت إليه نظري ولم أصرفه عنه حتى صرف نظره
حياءً - كما أظن - ، ثم اكتفى بعد ذالك باختلاس النظرات إلى الفتاة
المجاورة ، ولما أصبح ذلك دَيْدَنَه ، كتبت قصاصة صغيرة (( ألم تتعب من
الالتفات ؟ ))، فلم يلتفت بعدها .
عندما غاصتْ الطائرة في السحاب
الكثيف بعد الإقلاع بدقائق معدودات اتجه نظري إلى ذالك المنظر البديع
سبحان الله العظيم ، قلتُها بصوت مرتفع وأنا أتأمل تلك الجبال الشاهقة من
السحب المتراكمة التي أصبحنا ننظر إليها من مكان مرتفع ، قالت الفتاة التي
كانت تجلس بجوار النافذة : إي والله سبحان الله العظيم ، ووجهتْ حديثها
إليَّ قائلة ً إن هذا المنظر يثير الشاعرية الفذَّة ، ومن حسن حظي أنني
أجاور شاعراً يمكن أن يرسم لوحة ًشعرية رائعة لهذا المنظر …
لم تكن
الفتاة وهي تقول لي هذا على حالتها التي دخلت بها إلى الطائرة ، كلا..لقد
لملمت تلك العباءة الحريرية ، وذلك الغطاء الرقيق الذي كان مسدلاً على
وجهها ووضعتهما داخل حقيبتها اليدوية الصغيرة ، لقد بدا وجهها ملوَّناً
بألوان الطيف ، أما شعرها فيبدو أنها قد صفَّـفته بطريقة خاصة تعجب
الناظرين …
قلت لها :
سبحان من علَّم الإنسان ما لم يعلم ، فلولا ما أتاح الله للبشر من كنوز
هذا الكون الفسيح لما أتيحت لنا رؤية هذه السحب بهذه الصورة الرائعة ..
قالت: إنها تدلُّ على قدرة الله تعالى ..
قلت:
نعم تدل على قدرة مبدع هذا الكون و خالقه ،الذي أودع فيه أسراراً عظيمة ،
وشرع فيه للناس مبادئ تحفظ حياتهم وتبلَّـغهم رضى ربهم ،وتنجيهم من عذابه
يوم يقوم الأشهاد.
قالت : إلا يمكن أن نسمع شيئاً من الشعر فإني أحب الشعر وإن هذه الرحلة ستكون تاريخية بالنسبة إليَّ ، ما كنت أحلم أن أسمع منك مباشرة ..
لقد تمنَّيتُ من أعماق قلبي لو أنها لم تعرف مَنْ أنا لقد كان في ذهن أشياء كثيرة أريد أن أقولها لها .
وسكتُّ
قليلاً كنت أحاور نفسي حواراً داخلياً مُرْبكاً ، ماذا أفعل ، هل أبدأ
بنصيحة هذه الفتاة وبيان حقيقة ما وقعت فيه من أخطاءٍ ظاهرة ، أم أترك ذلك
إلى آخر المطاف ؟
وبعد تردُّد قصير عزمت على النصيحة المباشرة السريعة لتكون خاتمة الحديث معها.
وقبل
أن أتحدث أخرجت من حقيبتها قصاصاتٍ ملوَّنة وقالت : هذه بعض أوراق أكتبها
، أنا أعلم أنها ليست على المستوى الذي يناسب ذوقك ، ولكنها خواطر عبرت
بها عن نفسي …
وقرأت القصاصات بعناية كبيرة ، إني أبحث فيها عن مفتاح لشخصية الفتاة ..
إنها
خواطر حالمة ، هي فتاة رقيقة المشاعر جداً ، أحلامها تطغى على عقلها بشكل
واضح ، لفت نظري أنها تستشهد بأبيات من شعري ، قلت في نفسي هذا شيء جميل
لعل ذلك يكون سبباً في أن ينشرح صدرها لما أريد أن أقول ، بعد أن قرأت
القصاصات عزمت على تأخير النصيحة المباشرة وسمحت لنفسي أن تدخل في حوارٍ
شامل مع الفتاة ..
قلت لها : عباراتك جميلة منتقاة ، ولكنها لا تحمل معنىً ولا فكرة كما يبدو لي ، لم أفهم منها شيئاً ، فماذا أردتِ أن تقولي …؟
بعد صمتٍ قالت :
لا أدري ماذا أردتُ أن أقول : إني أشعر بالضيق الشديد ، خاصة عندما يخيَّم
عليَّ الليل ، أقرأ المجلات النسائية المختلفة ، أتأمَّل فيها صور
الفنانات والفنانين ، يعجبني وجه فلانة ، وقامة فلانة ، وفستان علاَّنة ،
بل تعجبني أحياناً ملامح أحد الفنانين فأتمنَّى لو أن ملامح زوجي كملامحه
، فإذا مللت من المجلات اتجهت إلى الأفلام ، أشاهد منها ما أستطيع وأحسُّ
بالرغبة في النوم ، بل إني أغفو وأنا في مكاني ، فأترك كل شيء وأتجه إلى
فراشي …، وهناك يحدث ما لا أستطيع تفسيره ، هناك يرتحل النوم ، فلا أعرف
له مكاناً .
عجباً ، أين ذلك النوم الذي كنت أشعر به وأنا جالسة ، وتبدأ رحلتي مع الأرق ، وفي تلك اللحظات أكتب هذه الخواطر التي تسألني عنها …
(( إنها مريضة )) قلتها في نفسي ، نعم إنها مريضة بداء العصر ؛ القلق الخطير ، إنها بحاجة إلى علاج .
قلت لها :
ولكنَّ خواطرك هذه لا تعبر عن شيء ٍ مما قلت إنها عبارات برَّاقة ، يبدو
أنك تلتقطينها من بعض المقالات المتناثرة وتجمعينها في هذه الأوراق …
قالت :
عجباً لك ، أنت الوحيد الذي تحدَّثت بهذه الحقيقة ،كل صديقاتي يتحدثن عن
روعة ما أكتب ، بل إن بعض هذه الخواطر قد نشرت في بعض صحفنا ، وبعثَ إلىَّ
المحرِّر برسالة شكر على هذا الإبداع ، أنا معك أنه ليس لها معنى واضح ،
ولكنها جميلة .
وهنا سألتها مباشرة :
هل لك هدفٌُ في هذه الحياة ؟!
بدا على وجهها الارتباك ، لم تكن تتوقع السؤال ، وقبل أن تجيب قلت لها :
هل
لك عقل تفكرين به ، وهل لديك استقلال في التفكير ؟ أم أنك قد وضعت عقلك
بين أوراق المجلات النسائية التي أشرت إليها ، وحلقات الأفلام التي ذكرت
أنك تهرعين إليها عندما تشعرين بالملل .
هل أنتِ مسلمة ؟!..
هنا تغيَّر كل شيء ، أسلوبها في الحديث تغيَّر ، جلستها على المقعد تغيَّرت ، قالت :
هل
تشك في أنني مسلمة ؟ ! إني - بحمد الله - مسلمة ٌُ ومن أسرة مسلمة عريقة
في الإسلام ، لماذا تسألني هذا السؤال ، إن عقلي حرٌّ ليس أسيراً لأحد ،
إني أرفض أن تتحدَّث بهذه الصورة ….. وانصرفت إلى النافذة تنظر من خلالها
إلى ملكوت الله العظيم …
لم أعلق على كلامها بشيء ، بل إنني أخذت
الصحيفة التي كانت أمامي وانهمكت في قراءتها ، ورحلت مع مقال في الصحيفة
يتحدث عن الإسلام والإرهاب (( كان مقالاً طويلاً مليئاً بالمغالطات
والأباطيل ، يا ويلهم هؤلاء الذين يكذبون على الله , ولا أكتمكم أنني قد
انصرفت إلى هذا الأمر كلياً حتى نسيت في لحظتها ما جرى من حوار بيني وبين
مجاورتي في المقعد ، ولم أكن أشعر بنظراتها التي كانت تختلسها إلى الصحيفة
لترى هذا الأمر الذي شغلني عن الحديث معها - كما أخبرتني فيما بعد ، ولم
أعد من جولتي الذهنية مع مقال الصحيفة إلا على صوتها وهي تسألني :
أتشك في إسلامي ؟!
قلت لها : ما معنى الإسلام ؟! قالت : هل أنا طفلة حتى تسألني هذا السؤال ! قلت لها:
معاذ الله بل أنت فتاة ناضجة تمتم النضج ، تُلوِّن وجهها بالأصباغ ،
وتصفِّفُ شعرها بطريقة جيدة ، وتلبس عباءتها وحجابها في بلادها ، فإذا
رحلت خلعتها وكأنهما لا يعنيان لها شيئاً ، نعم إنك فتاة كبيرة تحسن
اختيار العطر الذي ينشر شذاه في كل مكان ..فمن قال إنك طفلة … ؟!
قالت : لماذا تقسو عليَّ بهذه الصورة ؟
قلت لها : ما الإسلام ؟ … قالت : الدين الذي أرسل الله به محمد صلى الله عليه وسلم ، قلت لها : وهو كما حفظنا ونحن صغار (( الاستسلام لله بالتوحيد ، والانقياد له بالطاعة ، و الخلوص من الشرك )) ، قالت : إي والله ذكرتني ، لقد كنت أحصل في مادة التوحيد على الدرجة الكاملة !
قلت لها : ما معنى (( الانقياد له بالطاعة )) ؟
سكتت قليلاً ثم قالت : أسألك بالله لماذا تتسلَّط عليَّ بهذه الصورة ، لماذا تسيء إليَّ وأنا لم أسئ إليك ؟
قلت لها : عجباً لك ، لماذا تعدّين حواري معك إساءة ؟ أين موطن الإساءة فيما أقول؟
قالت : أنا ذكية وأفهم ما تعني ، أنت تنتقدني وتؤنبني وتتهمني ، ولكن بطريقة غير مباشرة ..
قلت لها : ألست مسلمة ؟
قالت : لماذا تسألني هذا السؤال ؟ إني مسلمة من قبل أن أعرفك ، وأرجوك ألا تتحدث معي مرة أخرى .
قلت لها : أنا متأسف جداً ، وأعدك بألا أتحدث إليك بعد هذا …
ورجعتُ
إلى صفحات الصحيفة التي أمامي أكمل قراءة ذلك المقال الذي يتجنَّى فيه
صاحبه على الإسلام ، ويقول : إنه دين الإرهاب ، وإن أهله يدعون إلى
الإرهاب ، وقلت في نفسي : سبحان الله ، المسلمون يذبَّحون في كل مكان كما
تذبح الشيِّاه ، ويقال عنهم أهل الإرهاب …
وقلبتُ صفحة أخرى فرأيت خبراً عن المسلمين في كشمير ، وصورة لامرأة مسلمة تحمل طفلاً ، وعبارة تحت صورتها تقول : إنهم يهتكون أعراضنا ينزعون الحجاب عنَّا بالقوة وأن الموت أهون عندنا من ذلك ، ونسيت أيضاً أن مجاورتي كانت تختلس نظرها إلى الجريدة ، وفوجئت بها تقول :
ماذا تقرأ ؟ .. ولم أتحدث إليها ، بل أعطيتها الجريدة وأشرت بيدي إلى صورة المسلمة الكشميرية والعبارة التي نُقلت عنها …
ساد الصمت وقتاً ليس بالقصير ، ثم جاءت خادمة الطائرة بالطعام … واستمر الصمت …
وبعد أن تجوَّلتُ في الطائرة قليلاً رجعت إلى مقعدي ، وما إن جلست حتى بادرتني مجاورتي قائلة ً :
ما كنت أتوقع أن تعاملني بهذه القسوة !..
قلت لها :
لا
أدري ما معنى القسوة عندكِ ، أنا لم أزد على أن وجهت إليك أسئلة ً كنت
أتوقع أن أسمع منك إجابة ًعنها ، إ لم تقولي إنك واثقة بنفسك ثقة ً كبيرة
؟ فلماذا تزعجك أسئلتي ؟
قالت : أشعر أنك تحتقرني ..
قلت لها : من أين جاءك هذا الشعور ؟
قالت : لا أدري .
قلت لها :
ولكنني أدري .. لقد انطلق هذا الشعور من أعماق نفسك ، إنه الشعور بالذنب
والوقوع في الخطأ ،أنت تعيشين ما يمكن أن أسمّيه بالازدواجية ، أنت تعيشين
التأرجح بين حالتين …
وقاطعتني بحدّة قائلة : هل أنا مريضة نفسياً ؟ ما هذا الذي تقول ؟!
قلت لها :
أرجو ألاَّ تغضبي ، دعيني أكمل ، أنت تعانين من ازدواجيةٍ مؤذية ، أنتِ
مهزومة من الداخل ، لاشك عندي في ذلك ، وعندي أدلّة لا تستطيعين إنكارها .
قالت مذعورة ً : ما هي ؟
قلت :
تقولين إنك مسلمة ، والإسلام قول وعمل ، وقد ذكرت لك في أول حوارنا أن من
أهم أسس الإسلام (( الانقياد لله بالطاعة )) ، فهل أنت منقادة لله بالطاعة
؟
وسكتُّ لحظة ً لأتيح لها التعليق على كلامي ، ولكنها سكتتْ ولم تنطق ببنتِ شفةٍ - كما يقولون - وفهمت أنها تريد أن تسمع ، قلت لها :
هذه العباءة ، وهذا الحجاب اللذان حُشرا - مظلومَيْن - في هذه الحقيبة الصغيرة دليل على ما أقول ….
قالت بغضب واضح : هذه أشكال وأنت لا تهتم إلا بالشكل ، المهم الجوهر .
قلت لها:
أين الجوهر؟ ها أنت قد اضطربت في معرفة مدلولات كلمة (( الإسلام )) الذي
تؤمنين به ، ثم إن للمظهر علاقة قوية بالجوهر ، إن أحدهما يدلُّ على الآخر
، وإذا اضطربت العلاقة بين المظهر والجوهر ، اضطربت حياة الإنسان …
قالت : هل يعني كلامك هذا أنَّ كل من تلبس عباءة ً وتضع على وجهها حجاباً صالحة نقية الجوهر ؟
قلت لها :
كلا ، لم أقصد هذا أبداً ، ولكنَّ من تلبس العباءة والحجاب تحقِّق مطلباً
شرعياً ، فإن انسجم باطنها مع ظاهرها ، كانت مسلمة حقّة ، وإن حصل العكس
وقع الاضطراب في شخصيتها ، فكان نزعُ هذا الحجاب - عندما تحين لها الفرصة
هيِّناً ميسوراً ، إن الجوهر هو المهم ، وأذكِّرك الآن بتلك العبارة التي
نقلتها الصحيفة عن تلك المرأة الكشميرية المسلمة ، ألم تقل : إن الموت
أهون عليها من نزع حجابها ؟ لماذا كان الموت أهون ؟
لأنها آمنت بالله
إيماناً جعلها تنقاد له بالطاعة فتحقق معنى الإسلام تحقيقاً ينسجم فيه
جوهرها مع مظهرها ،وهذا الانسجام هو الذي يجعل المسلم يحقق معنى قول
الرسول عليه الصلاة السلام : (( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون
هواه تبعاً لما جئت به )) .
إنَّ لبس العباءة والحجاب - عندك - لا
يتجاوز حدود العادة والتقليد ، ولهذا كان هيّناً عليك أن تنزعيهما عنك دون
تردُّد حينما ابتعدت بك الطائرة عن أجواء بلدك الذي استقيت منه العادات
والتقاليد ، أما لو كان لبسك للحجاب منطلقاً من إيمانك بالله ، واعتقادك
أن هذا أمر شرعي لا يفرّق بين مجتمع ومجتمع ، ولا بلدٍ وبلدٍ لما كان
هيّناً عليك إلى هذه الدرجة .
الازدواجية في الشخصية - يا عزيزتي - هي المشكلة .. أتدرين ما سبب هذه الازدواجية ؟
فظننت أنها ستجيب ولكنها كانت صامتةً ، وكأنها تنتظر أن أجيب أنا عن هذا السؤال..
قلت:
سبب هذه الازدواجية الاستسلام للعادات والتقاليد ، وعدم مراعاة أوامر
الشرع ونواهيه ، إنها تعني ضعف الرقابة الداخلية عند الإنسان ،ولهذا فإن
من أسوأ نتائجها الانهزامية حيث ينهزم المسلم من الداخل ،فإذا انهزم تمكن
منه هوى النفس ، وتلاعب به الشيطان ، وظلَّ كذلك حتى تنقلب في ذهنه
الموازين …
لم تقل شيئاً ، بل لاذت بصمت عميق ، ثم حملت حقيبتها واتجهت
إلى مؤخرة الطائرة … وسألت نفسي تراها ضاقت ذرعاً بما قلت ، وتراني
وُفَّقت فيما عرضت عليها ؟ لم أكن - في حقيقة الأمر - أعرف مدى التأثر بما
قلت سلباً أو إيجاباً ، ولكنني كنت متأكداً من أنني قد كتمت مشاعر الغضب
التي كنت أشعر بما حينما توجه إليَّ بعض العبارات الجارحة ، ودعوت لها
بالهداية ، ولنفسي بالمغفرة والثبات على الحق .
وعادت إلى مقعدها .. وكانت المفاجأة ، عادت وعليها عباءَتُها وحجابها … ولا تسل عن فرحتي بما رأيت !
قالت :
إن رحمة الله بي هي التي هيأت لي الركوب في هذا المقعد ، صدقت - حينما
وصفتني - بأنني أعاني من الهزيمة الداخلية ، إن الازدواجية التي أشرت
إليها هي السمة الغالبة على كثير من نبات المسلمين وأبنائهم ، يا ويلنا من
غفلتنا ! أنَّ مجتمعاتنا النسائية قد استسلمتْ للأوهام ، لا أكتمك أيها
الأخ الكريم ، أن أحاديثنا في مجالسنا نحن النساء لا تكاد تتجاوز الأزياء
والمجوهرات والعطورات ، والأفلام والأغاني والمجلات النسائية الهابطة ،
لماذا نحن هكذا ؟
هل نحن مسلمون حقاًً ؟
هل أنا مسلمة ؟
كان
سؤالك جارحاً ، ولكني أعذرك ، لقد رأيتني على حقيقة أمري ، ركبت الطائرة
بحجابي ، وعندما أقلعت خلعت عني الحجاب ، كنت مقتنعة بما صنعت ، أو هكذا
خُيِّل إليَّ أني مقتنعة ، بينما هذا الذي صنعته يدلُّ حقاً على
الانهزامية والازدواجية ، إني أشكرك بالرغم من أنك قد ضايقتني كثيراً ،
ولكنك أرشدتني ، إني أتوب إلى الله وأستغفره .
ولكن أريد أن أستشيرك .
قلت وأنا في روضةٍ من السرور بما أسمع من حديثها : (( نعم … تفضلي إني مصغ ٍ إليك )) .
قالت : زوجي ، أخاف من زوجي .
قلت : لماذا تخافين منه ، وأين زوجك ؟
قالت : سوف يستقبلني في المطار ، وسوف يراني بعباءتي وحجابي ..
قلت لها : وهذا شيء سيسعده …
قالت :
كلا ، لقد كانت آخر وصية له في مكالمته الهاتفية بالأمس : إياك أن تنزلي
إلى المطار بعباءتك لا تحرجيني أمام الناس ، إنه سيغضب بلا شك .
قلت لها :
إذا أرضيت الله فلا عليك أن يغضب زوجُك ، و بإمكانك أن تناقشيه هادئة
فلعلَّه يستجيب ، إني أوصيك أن تعتني به عناية الذي يحب له النجاة
والسعادة في الدنيا والآخرة .
وساد الصمت …. وشردت بذهني في صورة خيالية إلى ذلك الزوج يوصي زوجته بخلع حجابها … أهذا صحيح ؟!
أيوجد
رجل مسلم غيور كريم يفعل هذا ؟! لا حول ولا قوة إلا بالله ، إن مدنية هذا
العصر تختلس أبناء المسلمين واحداً تلو الآخر ، ونحن عنهم غافلون ، بل ،
نحن عن أنفسنا غافلون .
وصلت الطائرة إلى ذلك المطار البعيد ، وانتهت
مراسم هذه الرحلة الحافلة بالحوار الساخن بيني وبين جارة المقعد ، ولم
أرها حين استقبلها زوجها ، بل إن صورتها وصوتها قد غاصا بعد ذلك في عالم
النسيان ، كما يغوص سواها من آلاف الأشخاص والمواقف التي تمر بنا كلَّ يوم
…
كنت
جالساً على مكتبي أقرأ كتاباً بعنوان (( المرأة العربية وذكورية الأصالة
)) لكاتبته المسمَّاة ((منى غصوب )) وأعجبُ لهذا الخلط ، والسفسطة ،
والعبث الفكري واللغوي الذي يتضمَّنه هذا الكتاب الصغير ، وأصابني -
ساعتها - شعور عميق بالحزن والأسى على واقع هذه الأمة المؤلم ، وفي تلك
اللحظة الكالحة جاءني أحدهم برسالة وتسلَّمتها منه بشغف ، لعلَّي كنت
أودُّ - في تلك اللحظة - أن أهرب من الألم الذي أشعله في قلبي ذلك الكتاب
المشؤوم الذي تريد صاحبته أن تجرد المرأة من أنوثتها تماماً ، وعندما فتحت
الرسالة نظرت إلى اسم المرسل ، فقرأت : (( المرسلة أختك في الله أم محمد
الداعية لك بالخير )) .
أم محمد ؟ من تكون هذه ؟!
وقرأت الرسالة ،
وكانت المفاجأة بالنسبة إليَّ ، إنها تلك الفتاة التي دار الحوار بيني
وبينها في الطائرة ، والتي غاصت قصتها في عالم النسيان !
إن أهم عبارة قرأتها في الرسالة هي قولها : ((
ثم
أمسكت بالقلم … وكتَبْتُ رسالةََ ً إلى (( أم محمد )) عبَّرْتُ فيها عن
فرحتي برسالتها ، وبما حملته من البشرى ، وضمَّنتها أبياتاً من القصيدة
التي أشارت إليها في رسالتها ، منها :
ضدان يا أختاه ما اجتمعا *** دين الهدى والفسق والصَّدُّ
والله مـــــا أزرى بأمـــتنا *** إلا ازدواج مــــا لــه حَــدُّ
وعندما هممت بإرسال رسالتي ، تبيَّن لي أنها لم تكتب عنوانها البريديَّ ، فطويتها بين أوراقي لعلّها تصل إليها ذات يوم .
لعلَّك
تذكر تلك الفتاة التي جاورتك في مقعد الطائرة ذات يوم ، إِني أبشِّرك